اذهب الي المحتوي

سلسلة العقدة الكبرى والعقد الصغرى


Recommended Posts

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السادسة والعشرون

 

 

عاشراً: عقدة النقص، (النقص العام) أو الشعور بالدونية (النقص الخاص)

 

ونبدأ بجانبها العام، لأن حلَّ العقدةِ من جانبها العام يحلُّها من جانبها الخاص، والجانب العام لعقدة النقص آتٍ مما فُطِرَ عليه الإنسان من الإحساس بالمحدودية في كل شيء، والعجز النسبي في كلِّ شيء، والنقص النسبيِّ في كل شيء، والاحتياج، فهذه السمات الأربع في الإنسان تجعلُهُ يُحِسُّ بالنقص، ويندفع تلقائياً وبغير شعور لأن يُخْفِيَ هذا النقص، ولكنه بإخفائه يخفيه عن غيرِهِ، ولا يُخْفيه عن نفسِهِ، فالإحساس يبقى موجوداً، لأنه فطريٌّ في كل إنسان، وهو مظهر من مظاهر غريزة التديّن عند كل واحدٍ من البشر.

 

والمفروض في هذا الإحساس، الإحساس بالنقص أن يدفعَ الإنسانَ للجوء إلى خالقِهِ سبحانه، الذي لا يعتريه النقص، ولا العجز، ولا المحدوديةُ، ولا الاحتياج، لأنّ الإنسانَ بما أوتي من قدرات وخواص يحسُّ عجزَهُ عن تغطية نقصه، وسدِّ حاجاته بدون خالقِهِ سبحانه، فهو الذي خلقه من العدم، وسوّاه في أحسن تقويم، وهداه لما يصلحه، وهو الذي قدّرَ له رزقه، وبغيرِهِ سبحانه لا يستطيع الإنسانُ تحقيقَ شيءٍ، وانظر إلى مئات الآياتِ التي يمنُّ الله سبحانه فيها على عبادِهِ بما سَخَّرَه لهم مما حولهم من السموات والأرض، فمنها يأكلون، ومنها يشربون، ومنها يلبسون، وعليها يمشون ويقعدون وينامون، ومنها يستخرجون ما يحتاجونه من موادَّ للصناعة، وحجارةٍ للبناء، ومنها تأكل أنعامهم وعليها تعيش، فلا بدّ أن يدركَ الإنسانُ أنه مهما أوتي من عقل وفكر وتدبير وتفكير وتخطيط، فإنه مقيَّدٌ في هذه الحياة بسننِ الكون وقوانينه، ومقيَّدٌ بخواصه وقدراته المحدودة، لا يستطيع تجاوزها، فالحلُّ الصحيحُ، هو حلُّ العقدة الكبرى التي تربط الإنسانَ بخالقِهِ، ليعقِدَ معه الصلات التي يقتضيها حلُّ العقدة الكبرى: صلة الخلق والإيجاد من العدم، وصلة البعث والنشور، والثواب والعقاب، والأوامر والنواهي، ويحمل ما اقتضاه هذا الحل من مفاهيم تسدُّ نقصه وعجزَه ومحدوديتَه واحتياجَه.

 

وأهمُّ هذه المفاهيم التي تتعلَّقُ تعلُّقاً شديداً بعقدة النقصِ عند الإنسان مفهومُ التوكُّل على الله، به يَسُدُّ الإنسانُ نقصَهُ، ولكن كيف ذلك؟

 

التوكُّلُ في اللغة يعني الاعتماد على الغير، أما التوكل على الله فهو الاعتماد الكليُّ على الله تعالى، واليقين التامُّ بأنَّ الله سبحانه هو وحده الخالق الرازق الهادي مدبرُ شؤون الكون، صغيرِها وكبيرِها، وهو تعالى خالق الكون والإنسان، وخالقٌ فيهما الخواص، ومقدّرٌ فيهما الأسباب، فكل شيء بيدِ الله تعالى، وأنه لا يعمل قانونٌ في الكون، ولا يمضي سببٌ إلى نتيجته إلا بإذن الله تعالى، ولذلك على الإنسان أن يوقنَ أنه لا تتحققُ نتيجةٌ، أيةُ نتيجةٍ، صغرت أم كبرت، لا تتحققُ إلا بإرادةِ اللهِ، وبعلمِهِ، وبإذنِهِ، فعنده وحده يُطلَبُ تحقيقُ النتائج، ويوقنُ الإنسانُ أنَّ ما حققه ويحققه ليس بإرادته وحده، فلو شاء الله لما حققَ أحدٌ شيئاً، ولا أنتجَ أيُّ سببٍ أيةَ نتيجة، ولكن الله سبحانه شاء ذلك وأراده، إذن ما يتمُّ تحقيقُه على أيدينا إنما هو بإذن الله وعلمِهِ وإرادتِه.

 

والإنسانُ ضعيفٌ بطبعِهِ، يقول الله سبحانَه وتعالى: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)، ضعيفٌ بفطرتِهِ التي فُطِرَ عليها، ولا يسدُّ ضعفَه هذا إلا خالقُهُ سبحانه، فهو ضعيف بذاته ونفسه، لكنه قويٌّ بالله. عاجزٌ بطبعه لكنه قادرٌ بالله، فقيرٌ بطبعه لكنه مستغنٍ بالله، ناقصٌ بطبعِه يكتملُ بالله، محدودٌ بطبعِهِ قادرٌ بالله.

 

هنا تأتي قيمةُ التوكل على الله، وقد رأينا ذلك في فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بتوكلها على الله، ورأينا الضعيف صارَ قوياً بالله، والفقير صار غنياً بالله.

 

وخواصُّ الإنسانِ وقدراتُهُ المجبولُ عليها هي من باب القضاء والقدر، أيْ مما وقعَ على الإنسانِ ووجِدَ الإنسانُ عليه رغماً عنه، ولا يملك له تغييراً، أو ردّاً، فهو مفطور أن يأكل، ولا يستطيع مخالفة ذلك، ومفطور أن ينام، ومفطور وفيه قابلية المرض والعجز والهرم، ولا يستطيع مخالفة ذلك، ومقيّدٌ قدراته كلها، فهو يمشي لحد معين، ويقف لحد معين، ويقعد لحد معين، ويأكل لحد معين، وهكذا في كل شيء من خواصه وقدراته، ولا يستطيع الإنسان بنفسه أن يغطيّ أية حاجة من حاجاته، ولا يستطيع أن يسدّ عجزَه، أو احتياجه، ولا يستطيع أن يتجاوز محدوديتَه.

 

ولكنه بحل العقدة الكبرى الحلَّ الصحيح، بعقيدة الإسلام، يرضى أولاً لحاله الذي هو عليه، ويسلّمُ راضياً مطمئناً على أن هذا الحال هو الخير له، فلا يشكّلُ له عقدة.

 

وكذلك بمفهوم التوكّل يستطيع تجاوزَ قدراتِه، فيحقق بالتوكل على الله والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، والصبر على ذلك، والاحتساب عند الله، يحقق بكل ذلك ما لا يحققه غيره، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السابعة والعشرون

 

 

نواصل حديثنا عن عقدة النقص، وتوقفنا عند أمثلة نريد عرضها عن المتوكلين وكيف حققوا بتوكلهم ما لم يحققه غيرهم.

 

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام دولة عظمى توازي الدولتين العظميين في ذلك الزمان خلال عشر سنوات، وطرق أبواب واحدة من تلكما الدولتين العظميين مؤذناً بحمل الإسلام إليها وضمها إلى الدولة العظمى الناشئة، التي ضمّت أطراف الجزيرة العربية كلَّها، وإن هو إلا بشرٌ آمن بفكرته تكتّلُ الصحابة، توكّلوا على الله تعالى حقَّ توكله.

 

وها هم أولاء الصحابةُ الكرامُ، رضي الله عنهم، تلاميذُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قد ورثوا هاتين الدولتين العظميين في زمن قياسي في حدود خمس سنوات فقط، وانطلقوا إلى ما بعدهما من البلاد والدول والكيانات، يحملون إليها الإسلام، لقد توكّلوا على الله حق توكّله.

 

إن هذه الأعمال العظيمة قام بها رجالٌ من البشر، لديهم من الإحساس بالنقص والعجز والاحتياج والمحدودية كما لدى غيرهم من البشر، ولكنهم بإيمانهم بالله العظيم، وحسنِ توكّلِهم عليه، حققوا ما يشبهُ المعجزات، تجاوزوا قدرات البشر العاديين، مع محافظتهم على بشريتهم، وذلك بعبوديتهم لله حق العبودية.

 

لقد رأينا أشخاصاً يقف كلُّ واحدٍ منهم أمام ملكٍ، أو دولةٍ، أو جيشٍ، لقد أحسنوا التوكل على الله، رأينا أشخاصاً تفوق قدرةُ أحدهم قدرةَ ألف رجل، لقد أحسنوا التوكل على الله، لقد رأينا رجالاً استغنوا بالله فكانوا أغنى الناس، مع أنهم لا يملكون من متاع الدنيا الزائل شيئاً، لقد أحسنوا التوكل على الله، لقد رأينا أناساً لا يُعبَأُ بهم، فإذا بهم ينقلبون قادةً وزعماء، وكأنهم استحالوا خلقاً آخر، مع معرفة كلٍّ منهم بقدرِه، فلم يتجاوز أحدهم قدرَه، تواضعاً لله تعالى، لكنَّ الناس سوّدوهم عليهم، لقد رأينا أناساً كانوا عبيداً في الجاهلية، لا يملك أحدهم قرار نفسه بنفسه، لكنا رأيناه بعد سنوات أمراء وقادة، إنه الإيمان بالله، وحسنُ التوكلِ عليه، اللذان يسدّان كل نقصٍ عند الإنسان.

 

لقد أمر الله سبحانه وتعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم، وأمرَ عباده، أن يتوكلوا عليه، ففي سبعة مواضع في القرآن ورد قوله تعالى: (وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وورد في موضعين آخرين إسنادُ الأمر بالتوكل إلى المتوكلين، يأمرهم أن يتوكلوا على الله.

 

وهذا حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه عمرُ بنُ الخطاب: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)، ورد في القاموس: (أَي تَغْدو بُكْرةً وهي جِيَاعٌ وتروح عِشاءً وهي مُمْتَلِئةُ الأَجوافِ)

 

الحقُّ أنه سبحانه وتعالى هو المستحق وحدّه أن يتوكل عليه عباده، أن يعتمدوا عليهم في أمورهم كلها، ما يحسنونه وما لا يحسنونه، ما يستطيعون عليه، وما لا يستطيعون عليه، لحقيقة أنه تعالى المالكُ الحقيقيُّ لكل شيء، ولأسباب كل شيءٍ، ولخواصِّ كلِّ شيء، ومدبرُ أمرِ السموات والأرض، خلقَ السموات والأرض في ستة أيامٍ ولم يعيَ بخلقهنّ، وهو الذي لا يموت، وهو الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا تقاربه غفلةٌ، ولا يعجزُهُ شيءٌ في السموات ولا في الأرض، وهو المحيط علمُهُ بكلِّ شيءٍ، بما كان وما هو كائن، وما سيكون، وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلمُ ما في البرِّ والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبةٍ في ظلمات الأرض، ولا رطبٍ ولا يابس إلا في كتابٍ مبين.

 

أما النقص الخاصُّ، والمقصود به الإحساس بالنقصِ نتيجةً لعاهةٍ مثلاً، أو لمرضٍ مزمنٍ، أو لضعفٍ معينٍ، أو ما ينتج عن طبيعة نشأة الشخص، كالطفل المدلل مثلاً الذي تعوّد أن يهيءَ له أهلُه كل ما يريد، فيجد نفسَه قد كبر، ولم يعد يجدُ ما كان يجدُه أثناء طفولته المدللة، أو كمن يتعرض لحادث يفقِدُهُ بعضَ أعضائه، أو بعضَ قدراته، فإن ما يتولّدُ عن كل ما سبق من إحساس بالنقص إنما هو طبيعيٌّ، يضافُ إلى النقص العامِّ الذي يحسُّهُ كل إنسانٍ فطرياً، وعلاجُهُ كعلاجِ النقصِ العامِّ، بحسنِ الإيمانِ بالله، والإيمان بالقضاء والقدر، لأنَّ هذا مما يقعُ على الإنسانِ أو منه رغماً عنه، ولا يملكُ له دفعاً ولا ردّا، فموقف المؤمنِ الذي ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدة الكبرى هو التسليم والرضا، والصبر والاحتساب، فيكون هذا الذي أصابَه خيرٌ له.

وبحسنِ توكلِ صاحبه على الله يتفادى النقص الحاصل عنده نتيجةَ ما ألَمَّ به، فلا يعودُ يحسُّ بالنقصِ، وأنّه إنْ أخذَ اللهُ سبحانه منه شيئاً، فإنّه أبقى له الكثير، هذا عروةُ بنُ الزبيرِ رضي الله عنه، فقد رجله، وفقد أحدَ أولاده، فأثرَ عنه قولُه: (اللهم كان لي بنونَ سبعةٌ فأخذتَ واحداَ وأبقيت لي ستة، وكان لي أطرافٌ أربعةٌ فأخذتً طرفاً وأبقيتَ ثلاثةً، ولئن ابتليتَ لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت.)

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثامنة والعشرون

 

 

حاديَ عشر: عقدة اليأس

 

اليأسُ هو القنوطُ وانقطاع الأمل من الحياة بعامة، أو انقطاع الأمل من أمرٍ ما، أو أمور معينة يريدها الإنسان، فيفقد الإنسان الأمل في إمكانية تغيُّر الأحوال والأوضاع والأمور من حوله.

 

يقول اللهُ سبحانه وتعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ  لَيَئُوسٌ كَفُورٌ)، وكلمة (يئوس) صيغةُ مبالغةٍ على وزنِ فَعول، تدل على المبالغة في اليأس وكثرته وشدته، ومن حالات حصوله انتزاع اللهِ سبحانه وتعالى منه رحمةً كان أذاقَه إياها.

 

ومع أنّ اليأسَ عملٌ من أعمال القلبِ، إلا أنّ القرآن وصفَه بأنه من أعمال الكفر والضلال، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ  رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ).

 

وذكر القرآن الكريم سبب اليأس عند الإنسان في قوله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ  إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)، فالإنسانُ المجرَّدُ يقنطُ وييأس إن أصابته سيئةٌ، وهو كذلك إن انتزعت منه رحمةٌ أذاقه الله تعالى إياها.

 

واليأس نوعان: يأس من رحمة الله، وهو منهيٌّ عنه، وعدّ نوعاً من الكفر والضلال كما ذكرنا، ويأسٌ من أمرٍ من أمورالدنيا.

 

يعدُّ اليأسُ من الأمراض النفسية المؤثرة سلباً على حياةِ من يُصابُ به، إذ يدفعُهُ إلى الابتعاد عن الناس والانطواء على نفسِهِ، إضافةً لما يصيبُهُ من قلقٍ دائمٍ، واضطرابٍ في مشاعرِهِ وسلوكاتِه، وإحساسٍ مستمرٍّ بالتشاؤمِ، وبعضُ الناس يستطيع تجاوزَ ما ينتجُ أحياناً من يأسٍ من بعض الأحوالِ والمواقف، لكنَّ منهم من لا يستطيع تجاوزَه، أو محوَ آثاره، فيمتدُّ معه ليصيرَ مرضاً نفسياً مزمناً.

 

ومن الأسبابِ التي فيها مظنةُ إنتاج اليأسِ عند الناس أو بعضهم:

 

-الفشل في عمل أو أعمال، أو الفشل المتتالي.

 

-المعاملة الخاطئة للأطفال، والمعاملة بقسوة باستمرار. ومثل ذلك معاملة الأنظمة مع شعوبها بالطريقة نفسها.

 

-غرس الخوف في نفس الإنسانِ صغيراً أو كبيراً، وانتزاع الشجاعة منه. سواءٌ أكانَ من قبلِ الأهلِ بالنسبة للطفل، أم من قبل الأنظمة والحكومات في بث الرعب في نفوس شعوبها.

 

-تعرض الشخص لمواقف قاسية جداً تفوق طاقة احتماله.

 

-الخوف من المتاعب المستقبلية سواءٌ أكانَ الخوف حقيقياً أم مُتوهّماً.

 

-الشيخوخة وكبر السن والهرم، مع الخوف من عدم وجود معينٍ للشخص حين هرمه.

 

إنَّ الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدة الإسلامية يُبْعِدُ عن صاحبه أيَّ احتمالٍ للإصابةِ باليأسِ، حيثُ تدخُلُ جملةٌ من المفاهيم التي جاءت بها العقيدة الإسلامية في الوقاية من وقوعِ الإنسانِ في اليأس، ونذكر هنا ما يتيسر لنا من هذه المفاهيم وكيفية وقايتها من اليأس:

 

-مفهوم القضاء والقدر، يعالج كل يأس يمكن أن ينشأ عن ابتلاءات تصيب الإنسان، فالمؤمنُ بالله تعالى، وأنّه فعالٌ لما يريد، يؤمنُ أنّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئَه، وأن ما أخطأه لم يكنْ ليصيبَه، وأنّ ما أصابَه إنما هو بعلمِ اللهِ تعالى وإرادتِه، وأنّ موقفَه مما يصيبُه إنما هو الرضا والتسليم، والصبر والاحتسابُ، فينالُ الأجرَ والثواب، ويستمرُّ في حياته آمناً مطمئناً رغم ما يصيبه. ويكونُ البلاء دافعاً للإنسانِ لأن يراجعَ نفسَه، ويحاسبَها، ويتفقدَ سيرَ أعمالِهِ وموافقتها لأوامر الله تعالى ونواهيه، خشيةَ أنْ يكونَ ما أصابَه إنما هو لبعض ذنوبه، ليستغفر ويتوب، ولا يعودَ إلى مثلِهِ مرةً أخرى.

 

-مفهوم الرزق، وأنّه من عند الله سبحانه، وأنَّ ما أصابَهُ منه إنما هو من عندِ الله تعالى، بعلمِهِ وتقديرِه، وأنّ ما فاتَه منه فإنَّه ليس رزقَه، وليسَ مقسوماً له، فلا يأسى على فواته ولا يتحسر، بل يرضى ويقنَعَ بما أوتيَه، وأنّه هو الخيرُ له، فلا يقعُ في اليأس.

 

-مفهوم التوبة والاستغفار، فبيقين الإنسانِ أنّه عرضةٌ للخطأ والذنب والمعصية، وأنّ اللهَ تعالى يقبلُ توبةَ عبده، ويغفرُ له ذنبه، فلا يقعُ في اليأس نتيجةَ موقفٍ سابقٍ بدرَ منه، ولا يشكّلُ الماضي له عقدةً تؤثرُ في نفسه، فالله هو التواب الرحيم، الذي يقبل توبةَ عبدِهِ التائبِ إليه. يقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن  رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

 

-مفهوم الخوف من الله وحدَه، والخشيةِ له وحده، يحلُّ عند الإنسانِ عقدة الخوف من غيرِه، سواءً كان الذي يخافُ منه شخصاً، أو شيئاً أو عملاً أو أيَّ أمر آخر، فالذي ارتضى الحلَّ الصحيح للعقدة الكبرى بالعقيدة الإسلامية لا يخافُ غيرَ اللهِ تعالى، فلا يقعُ في اليأس، ولا يتطرّقُ إليه.

 

-مفهوم الرجاء، وحصر الرجاء في الله تعالى، فهو المالك الحقيقيُّ سبحانه لكل شيءٍ، فالذي ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى لا يرجو غيرَ الله تعالى، ويوقنُ أنَّ ما عندَ الله قريبٌ، وأنّه يتوصلُ إليه بطاعة الله سبحانه، فلا يقعُ في اليأس لأنه لا يرجو غير الله، فالذي يقعُ في اليأس هو الذي يرجو غيرَ الله فلا يتحقق له ما يرجوه فييأس.

 

-مفهوم التوكل على الله: إنَّ المتوكّلَ على الله لا يقعُ في اليأسِ، لأنه معتمدٌ في كل أمورِهِ على الله تعالى، والله تعالى لا يخيبُ ظنَّ عبدِه به، فمن ظنَّ بالله خيراً كان له خيراً، ومن ظنَّ به غيرَ ذلك كان له كما ظنّ، فالمتوكل على اللهِ لا يتطرّق إليه احتمالُ اليأس، ليقينه أنَّ له عندَ الله كلَّ ما يريد، منه ما هو في الدنيا، والكثيرُ في الآخرة.

 

-مفهوم الاستقامة على أمرِ الله سبحانه وتعالى، وعلى طريقه المستقيم، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فالذين آمنوا بالله تعالى، واستقاموا على الطريقة التي أراد لا خوفٌ عليهم ولا يحزنون، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ  الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ  الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ  وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) بل إن الملائكة تتنزل عليهم قائلين لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا، ويبشرونهم بالجنة التي وعدهم الله سبحانه وتعالى إياها، فكيف ييأس من لا خوفٌ عليه ولا يحزن، ومن بُشِّرَ بالجنة؟

 

أما اليأسُ الذي زرعتْهُ الأنظمةُ والحكوماتُ، وقام الإعلام المرافق بتعزيزِهِ في نفوس الناس، فإنه قد استولى على أكثر الناس فترة من الزمن، ولكن الأمةَ بدأت تنفضُ عن نفسِها غبارَ الزمن، لتتخلص من يأسها من تغيير هؤلاء الحكام، الذين ساموها صنوف الذلِّ والهوان، والتعذيب والتقتيل.

 

وإن الذي ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى لا يقعُ في اليأس من هؤلاء الحكام ومن أنظمتهم، واستمرَّ يعملُ طوالَ فترة الإذلال لتغيير هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام، متخذين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم في تغيير مجتمع مكة بعد إقامة الدولة الإسلامية، وجاعلين غايتهم رضوان الله تعالى، لم يبالوا بما أصابهم في سبيل الله وسبيل دعوته ورسالته من سجن أو تعذيب أو قتل أو تجويع أو بعد عن الأهل والأحبة، متمثلّينَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام فأمره ونهاه فقتله)، لم ييأسوا من حالةِ الأمةِ وسباتها الطويل، تعلّقت آمالهم باللهِ سبحانه وتعالى، وثبتوا على الحق، واستقاموا على الطريقة، واليوم نرى الأمة قد بدأت تطرقُ أبوابَ النصر، ولم يبق إلا إذنُ الله سبحانه وتعالى برفع ظلم الحكام عن الأمة، والانطلاق في حمل الإسلام إلى الشعوب والأمم الأخرى، لتطرقَ أبواب الدول العظمى اليوم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرقه أبواب الدولتين العظميين في زمانه، وكما فعل صحابته بإكمال المسيرة من بعده فورثوا هاتين الدولتين العظميين، والأمة بإذن الله ستفعل اليوم كما فعل قدوتُها صلى الله عليه وسلم من قبل، وكما فعل الصحابةُ الكرام رضيَ الله عنهم.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة التاسعة والعشرون

 

 

ثاني عشَرَ: عقدة التوفير

 

إنَّ مما ابْتُلِيَ به الناس في هذا الزمان، بسبب النظام الرأسمالي العفن، المطبق في العالم، هو عقدةَ التوفير، وفقدانَ القناعة بما يتيسر، وانعدامَ الرضا بالمقسوم، فالكلُّ يريدُ أن يرفعَ من مستوى دخلِهِ، ويريد أن يكون دخلُهُ يزيد عن حاجاتِهِ كثيراً، ليدّخِرَ منه لقابل الأيام، وقد شاعَ بين الناس أمثلة تعزّزُ هذا المفهومَ الخاطئَ، من مثلِ قولهم: (خبي قرشَك الأبيض ليومك الأسود).

 

لقد وقع كثير من أبناء المسلمين اليوم في هذه العقدة، حتى صار جمعُ المالِ وعَدَّه هدفاً وغايةً بحدِّ ذاته، بحيث صار يسبب لهم قلقاً واضطراباً، ولا يريدُ أحدٌ أن ينقصَ مالُه، فصارَ الهمُّ الأكبرُ عندَ الناس كيف يحصلونَ على المال، وكيف يزيدون مدّخراتهم، وكيف يحمونَها، وكيف يستثمرونها، وكأن غايةَ وجودِهم قد صارت المال فقط، وجعلوا من أنفسِهم عبيداً للمالِ، يجمعونه ويعدّدونه، ويحرسونه، حتى شكّلَ لهم همّاً إضافياً على همومِ حياتهم ومعيشتهم.

 

وقد ساهم النظام الرأسماليُّ العفنُ السائدُ في العالمِ اليوم في إيجادِ هذا المفهومِ وتثبيته لدى كثير من أبناء المسلمين، بما أوجدَهُ هذا النظامُ الفاسدُ من شركاتٍ مساهِمةٍ، ومؤسساتٍ ماليةٍ متعددة كالمصارف والبنوك وأسواق الأسهم والسندات، إضافة إلى المفاهيم الغربية التي تقدّس المال، وتتيح الحصول عليه بغض النظر عن حلال أو حرام، وتشجّع التوفير واستثمار المال بأية طريقة كانت. وزرعت في نفوس الناس الخوف على مستقبلهم، فدفعتهم لكي يدّخروا لمستقبلهم، ولنوائب الزمان، ولتعليم أبنائهم، وغير ذلك مما لا ينطبق تمام الانطباق مع الحلِّ الصحيح للعقدة الكبرى، فانساق الناس وراء هذه المفاهيم دون أن يدروا، فتشكّلت لديهم العُقَد، واستولت عليهم الهموم.

 

إن الحلَّ الصحيحَ للعقدة الكبرى بالعقيدة الإسلامية أعطى معتنقَه جملةً من المفاهيمِ والأحكام تجعلُهُ يحدّدُ موقفَه من مسألةِ المالِ وتوفيرِه وادّخاره، فمن هذه المفاهيم:

 

-أن المالَ مالُ الله، والإنسانُ مستخلَفٌ فيه، يسير فيه ومعه بحسب أوامر الله تعالى ونواهيه، قال الله سبحانه وتعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم  مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) فلا يحصُلُ على مالٍ إلا من حلالٍ، ولا ينفقُ إلا في مُباحٍ أو مندوبٍ أو واجبٍ، فلا ينفق في حرام، ولا يكسِبُ إلا من حلال بطرق الكسبِ التي بيّنَها الله سبحانَه وتعالى، وبهذا فالإنسانُ يسير في المال كسباً وإنفاقاً طالباً رضوانَ اللهِ تعالى، فلا يقلقُ إن فاتَه الحلال، ولا يستبدل به الحرام، ولا يأسى على ما فاتَه، ولا يفرَحُ بما أوتي، فتبقى مشاعرُهُ وأحاسيسُه متوازنة غيرَ مضطربةٍ ولا قلقة، وتهدأ دوافعُه المتعلقة بالمالِ فلا تثورُ إلا بما يتوافقُ مع مفاهيمِه المبنية والمنبثقة على الحلِّ الصحيح للعقدة الكبرى.

 

-حرّمَ الإسلامُ كنزَ المال، أي جمعَهُ وادّخارَه لغيرِ حاجةٍ، وتوعّدَ من يفعلُهُ بالعذابِ الشديدِ في جهنم، حيث يُحمَى عليها في نار جهنم، وتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورُهم، قال الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ  وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ  تَكْنِزُونَ)، فالأصلُ في المسلمِ ألاّ يدّخِرَ المالَ ويوفِّرَه لغيرِ حاجةٍ محددة، كأنْ يريدَ أن يبنيَ بيتاً، أو يزوّجَ ولداً، أو يشتريَ شيئاً يحتاجُ لمبلغٍ كبير، وما أشبهه، وما عدا ذلك، أي أن يجمعَ المالَ لمجردِ التوفير، فلا يجوزُ، ولربما احتجّ بعضُ الناس بأن كنزَ المالِ محرمٌ إنْ لم تُؤَدَّ زكاتُه، والحقُّ أنَّ شرطَ الزكاةِ غيرُ مذكورٍ في الآيةِ التي حرَمَت الكنزَ، بل المذكور هو الإنفاقُ في سبيل الله، والإنفاقُ في سبيل اللهِ أينما وردَ في القرآنِ الكريمِ إنما المقصودُ به الإنفاق على الجهاد، وليس أداء الزكاة، لأن واجب الأمة، بمجموعها وأفرادها أن تُعِدَّ للجهادِ العُدَّةَ اللازمة، وهكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يريد إعداد جيش، حيث كان يطلبُ من المسلمين أن يجهزوا الجيش من نفقاتهم، لأن الإنفاقَ على الجهادِ فرضٌ على كلِّ من يملكُ ما يزيد عن حاجته.

 

ويدلُّ أيضاً على على عدم صحة اشتراط الزكاة في المال حتى يكون كنزاً ما روي أنه توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَيَّة، قال: ثم توفي آخرُ، فوجدَ في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيتان. والدينار والديناران لا تجبُ فيهما الزكاة، ولا يبلغانِ نصابَها. ولكنّ الدينارَ والدينارَين لمن يزيدان عن حاجته يُعدّان كنزاً، وهؤلاء من أهل الصفة كان الناس يتصدقون عليهم، فاستحقّ صاحب الدينار الكَيَّةَ واستحق صاحب الدينارين الكيّتينِ.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثلاثون

 

 

-ضمنت العقيدةُ الإسلاميةُ، التي هي الحلُّ الصحيحُ للعقدة الكبرى، ضمنت لمعتنقها رزقه حتى يموت، فجاءتْ بعقيدةِ الرزقِ، التي تقضيْ بأنَّ الله تعالى هو الذي يبسطُ الرزقَ لعبادِه، ويقدرُ عليهم رزقهم، وورد في ذلك عشراتُ الآياتِ والأحاديثِ الصحيحةِ، فلا يقلقُ المسلمُ على غَدِه، ولا على مستقبلِه، لأنَّ كل يومٍ يمرُّ عليه، يأتيه فيه رزقُه، فلا يقلقُ على رزقِ غدِهِ، ولا على مستقبلِهِ ولا على مستقبلِ أولادِهِ، بل يطمئنُّ أنَّ اللهَ تعالى لن ينسى رزقَ أحدٍ من عبادِهِ: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)، فلا يقومُ بالتوفيرِ والادّخارِ، ويطمئنُّ على غدِهِ كما يطمئنُّ على يومِه.

 

-إن اللهَ سبحانَه وتعالى هو وحدَه بيدِهِ الغيبُ، وهو وحده بيدِه القضاءُ والقدر، وبيده أجلنا، وهو الذي قدّرَ ما سيصيبنا، قال الله سبحانه وتعالى: (} مَا أَصَابَ  مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ  لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) انظر إلى هذه الآية التي أخبرت أنّ ما من مصيبةٍ تقعُ إلا بعلمِ الله تعالى، وأتبعت ذلك بالقول: لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، ثم أتبعت ذلك بالبخل، بمن يبخلُ ويأمرُ الناسَ بالبخل، وكأنَّ البخيلَ وآمرَ الناسِ بالبخلُ يبخلُ خوفاً على غدِه. ولذلك فإن ما يقول به بعض الناسِ: إنك لا تدري ماذا يمكن أن يصيبني غداً... فقائل هذا القول يسيءُ الظنَّ بالله تعالى، فمن يخافُ على غدِه فإنه لا يحسبُ حسابَ ربِّه، وأنه موجودٌ ويتولى شؤون عبادِه. وجواب العقيدة عن هذا القول: إن كنتُ لا أدري، وإن كنتَ أنتَ أيضاً لا تدري، فإنَّ اللهَ تعالى يعلمُ، ويكفي هذا، فهو عالم الغيبِ والشهادة، وهو الرزاق ذو القوةِ المتينُ، وهو الذي يرزقنا ويرزقُ أولادَنا، ويعلمُ بما سيبتلينا به، ويهيءُ لنا المخرجَ مما يبتلينا به، هذا فقط للمؤمن، فكلُّ أمرِهِ خيرٌ له، فما يمكنُ أن يصيبَكَ إن كنت مؤمناً فهو الخيرُ لك.

 

-قرّرت العقيدةُ أن ليس للإنسان من المال الذي معه إلا ما أنفقه، وأن ما يدّخرُه فإنه ليس ماله، بل إنه سيذهب ويتركه، وسيكون مالَ الوارث، روى مسلمٌ عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر. قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم ! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت؟)، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (من أصبح آمناً في سِرْبِه، مُعافًى في بدنِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنما حِيْزَتْ له الدنيا بحذافيرِها).

 

- قررت العقيدةُ الإسلاميةُ بما انبثقَ عنها من أحكام، أنَّ التوفيرَ الحقيقيَّ للإنسان إنما هو في ما ينفقُهُ، وليس في ما يُبقيهِ عندَه، روى الترمذيُّ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما بقي منها؟) قلت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: (بقي كلها غير كتفها)، فالذي بَقيَ من الشاةِ مُدَّخَراً هو ما تصدقت به عائشة رضي الله عنها، والباقي بعد الصدقة ليسَ هو التوفيرَ.

 

-أوجبت العقيدةُ الإسلاميةُ على المسلمين التكافلَ في ما بينهم، فلا يحلُّ لمسلمٍ أن يدّخرَ مالاً لغيرِ حاجةٍ وهو يعلمُ أنَّ في منطقته أو حيّه من هو جائعٌ لا يجدُ ما يأكلُ، أو من هو عارٍ لا يجدُ ما يلبس، روى الإمامُ أحمدُ في مسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى).

 

وبهذه الأحكام والمفاهيم ضمنت العقيدةُ الإسلاميةُ –التي هي الحلُّ الصحيحُ للعقدةِ الكبرى- ألاّ يشكّلَ المالُ مصدرَ قلقٍ للمسلم، بل هو وسيلة يستعين بها الإنسان على قضاء حاجته، دون أن يجعلَه غايةً أو هدفاً، يقلقُ إن لم تتحقق غايتُه، ويضطرب إن فاته منه شيء.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الحادية والثلاثون

 

 

ثالثَ عشرَ: عقدة الخوف

 

الخوف مظهرٌ من مظاهر غريزة البقاء عند الإنسان، الأصلُ في هذا المظهر كي يدفعَ الإنسانَ الأخطار عن نفسه، ويدفعَ عن نفسِه كل ما يمكنُ أن يهدّدَ بقاءَه، وكمالَ بقائه، ودوامَ بقائه، فالموتُ يُوجِدُ الخوفَ عن الإنسانِ لأنّه يُنهِي بقاءَه ويوقِفُ دوامَه واستمرارَه، والفقرُ يُوجِدُ الخوفَ عندَ الإنسانِ لأنّه يُنقِصُ كمالَ بقائِه، والمرضُ يوجِدُ الخوفَ عند الإنسانِ لأنّه يؤثّرُ على بقائِه، ويحرمُهُ حسنَ البقاءِ، والمستقبلُ والمجهولُ يوجِدُ الخوفَ عندَ الإنسانِ لعدمِ علمِه بما فيه، وما يمكنُ أن يحملَهُ له من أخطارٍ وتهديدٍ لبقائه. والغيبُ يوجِدُ الخوفَ عند الإنسانِ لعدم معرفةِ الإنسانِ كنهَهُ وماهيّتَه، وما يمكنُ أن يكونَ فيه من قوى تهدّدُ بقاء الإنسانِ. والأولادُ يوجدونَ الخوفَ عند الإنسانِ لأنَّ في زوالِهم وقفاً لاستمرارِ بقائه، وأقاربُ الإنسانِ وعشيرتُه يوجدونَ الخوفَ عند الإنسان لأنّه بهم يشدُّ ظهرَه، ويقوّي بقاءه، فأيُّ تهديدٍ لهم يشكّلُ تهديداً لبقائِه، وهكذا.

 

والخوفُ عند الإنسان يقابلُه الأمنُ والطمأنينةُ، قال الله سبحانه وتعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً  قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) فهذه القريةُ كانت آمنةً مطمئنة، ونتيجة لكفرها سلبها الله تعالى الأمنَ والطمأنينةَ، وأذاقها لباسَ الجوعِ والخوف بما صنعوا بكفرهم. وقد منَّ الله سبحانه وتعالى على قريش قبلَ الإسلام أنه أطعمهم من جوع، وأمَّنهم من خوف. فالأمنُ والطمأنينةُ على كل شيءٍ متعلقٍ بالحياة البشرية واستقرارها وامتدادها ورقيها هو الذي يسعى إليه كل إنسان في حياته.

 

والحلُّ الصحيحُ للعقدةِ الكبرى بالعقيدةِ الإسلاميةِ عالجَ الخوفَ عند الإنسان علاجاً جذرياً أولاً، وعلاجاً شاملاً ثانياً.

 

فمن حيث الحلُّ الجذريُّ، بربط سلوك الإنسانِ وأحاسيسه ومشاعرِهِ بمفاهيمِهِ، فقد زوّدتهُ العقيدةُ الإسلاميةُ بجملةٍ من المفاهيمِ تمنعُ تسرّبَ الخوفِ إلى نفس الإنسان، فقد أمّنتْهُ من أي خوفٍ على المستقبلِ أو الموت أو القضاء والقدر أو الرزق أو العجز والنقص والاحتياج والمحدودية أو الهزيمة أو الضلال، بالعقائد المتعلقة بكل ما سبق مما سبق بيانُه، أولها الإيمان بالله تعلى، وعقيدة الإيمان بالغيب، وعقيدة الإيمان باليوم الآخر، وعقيدة الأجل، وعقيدة القضاء والقدر، وعقيدة الرزق، وعقيدة التوكل، وعقيدة النصر، فمعتنقُ العقيدةِ الإسلاميةِ، الذي ارتضى حلّها للعقدة الكبرى حلاًّ عقلياً مقنعاً صحيحاً، يعتقدُ كل هذه العقائد، فلا يخافُ موتاً ولا عجزاً ولا نقصاً ولا احتياجاً ولا محدوديةً ولا ضعفاً ولا هزيمة ولا مصيبةً، ولا يخافُ جوعاً أو عطشاً أو عُرياً أو تشرداً، ولا يخافُ فقراً ولا فاقةً، ولا يخافُ على مستقبلٍ، ولا يخافُ من مجهولٍ، لأنَّ اللهً سبحانَه هو المتحكمُ في الكونِ المدبّرُ لأمره.

 

ومن حيث الحلُّ الشموليّ فإن العقيدة الإسلاميةَ لم تتركْ شيئاً يمكنُ أن يسببَ الخوفَ عند الإنسانِ إلا وعالجتْه، ذلكَ أنه تعالى العليمُ وحدَه بما خلقَ: (} أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) بلى، وهو اللطيفُ الخبيرُ، وقال سبحانه وتعالى: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذ ْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)، فهو سبحانه الذي خلقنا، وهو الأعلمُ سبحانه بما ركّبَ فينا من حاجات وقدراتٍ وخواص، فهو الأعلمُ بما يصلحُنا، فلم يتركْ شيئاً يمكنُ أن يسببَ لنا خوفاً إلا وأعطانا المفهومَ الصحيحَ لعلاجِه.

 

لقد طلبَ الله سبحانَه وتعالى من عبادِهِ أشياءَ إن فعلوها بشّرهم أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمنها:

 

-اتباع هدى الله سبحانه، (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

 

-إسلام الوجِهِ إلى الله تعالى مع الإحسان: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

 

-الإنفاق في سبيل الله على مختلف الأحوالِ والأزمان، دونَ منٍّ أو أذًى: قالَ سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ  فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).

 

-الإيمان بالله، والعمل الصالح، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ  وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). وقد وعد سبحانه وتعالى من يتصفُ بالإيمانِ والعمل الصالح بالاستخلاف والتمكين في الأرض، وتبديلِ خوفِهم أمناً، فقال سبحانه: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

 

-الإيمان بالله تعالى حق الإيمان، والتقوى والإصلاح في العمل، قال سبحانه: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال سبحانه: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ،  لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، ووصفَ بمن يتصفو بهذه الصفات ويقومون بهذه الأعمال بأنهم أولياء الله. ووعد المؤمن العامل للصالحات أنه لا يخاف ظلماً ولا هضماً، ولا يخافُ بخساً ولا رهقاً: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)، وقال سبحانه: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثانية والثلاثون

 

 

نواصل حديثها مع عقدة الخوف:

 

-الإيمان بالله والاستقامةُ على ما أمر، قال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ  الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).

 

وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن الخوف من غيره،(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ  شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ  شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، ونهانا عن الخوف من الناس حتى لو اجتمعوا علينا، فقال سبحانه:  (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ،  إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فالمؤمنون الصادقون لا يخافون الناسَ ولو اجتمعوا عليهم، ليقينهم بالله تعالى وحفظِه لهم، فيزدادون إيماناً بالله ويقيناً به. وأن التخويف إنما هو من الشيطانِ، والذين يستجيبون للشيطان إنما هم أولياؤه، ونهينا عن الخوف من الناس، وأمرنا أن نحصر خوفَنا في الله سبحانه.

 

ومدح أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أنهم يخشون الله ولا يخشون أحداً سواه، قال اللهُ سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا).

 

وأخبرنا سبحانه وتعالى أنه قد يبتلي عبادَه بالخوف وبغيرِه مما يكرهون، ويعلّمنا سبحانَه بالموقفِ الصحيحِ الواجبِ علينا اتخاذُه حيالَ هذا الابتلاء بأنه الصبرُ، والإكثارُ من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، التي فيها الجواب الصحيح عن العقدة الكبرى، وأننا أولاً وآخراً مخلوقون لله وعائدون عليه، وله سبحانه أن يفعل ما يشاء، وهو الحكيم الخبير، قال عزَّ وجلَّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). والثمرة من هذا الموقف العظيم هو الرحمةُ من الله سبحانه وتعالى لعبادِهِ المبتَلَينَ بالخوف وغيره، بل وصفهم بأنهم هم المهتدون.

 

والموقف الصحيحُ من المسلمين في المجتمع الإسلامي تجاهَ أيِّ أمرٍ من الأمنِ أو الخوف ليس إذاعتَه وإحداثَ البلبلةِ والإرجافَ، بل أن يُرَدَّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حال وجوده، وإلى أولى الأمر من المسلمين بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، قال الله سبحانه: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً). والمؤمنُ التقي النقيُّ الصادقُ المتوكّلُ على الله لا يخشى الناسَ، ولا يخافُ لومهم، ولا يحسب لهم حساباً تجاهَ ما أمرَ القيامُ به، فالمؤمنون الأتقياء الذين يعملون الصالحات لا يخافون لومةَ لائم.

 

وقد ضربَ لنا اللهُ سبحانه وتعالى أروعَ الأمثلة على الخوف في قصة موسى عليه السلام، فقد قال لأمه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، لم يقل لها خبئيه، احرسيه، بل قال لها: ألقيه في  اليم، ولا تخافي ولا تحزني. ولما أرسل الله سبحانه موسى عليه السلام إلى فرعون قال إنه يخاف أن يقتله، وقد قتل منهم نفساً، فلننظر إلى الموقف في الآيات: (} قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)،  (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ، وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ، قَالَ  كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ)، ولم أسرى بقومِه وتوجّه نحو البحر أمّنه الله سبحانه وتعالى فأمره أن يضرب لهم طريقاً في البحر يبساً، فلا يخافَ أن يدركوه ولا يخشى شيئاً: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى). فما دام اللهُ سبحانه وتعالى مطلعاً على عبادِه وأحوالهم، وعالماً بما يحصلُ معهم، ويسمعهم ويراهم، ويرعاهم، فممَّ الخوفُ إذن؟

 

الخوف الحقيقيُّ هو من اللهِ تعالى، والخوفُ من غضبِه، والخوفُ من عذابِهِ، وليس من أي شيءٍ في الدنيا، فيبقى الخوفُ دافعاً للإنسانِ أن يستمسكَ بالله تعالى، ويستمسكَ بأمرِهِ وبما أوجبَه وفرضَه، ويجتنبَ ما نهى عنه، يهرب منه مثل ما بين المشرق والمغرب، فينال الأمنَ الدائم، والطمأنينةَ المستمرةَ التي لا تنقطع، ويستمرُّ إحساسُه بالقربِ من اللهِ تعالى، فلا يتطرقُ إليه خوف.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثالثة والثلاثون

 

 

رابعَ عشرَ: عقدة مستوى الحياة-

 

لما انشغل الناسُ عن دينِهم، وسكتوا عن ذهابِ دولتهم، دولةِ الخلافة، ورضوا بأنْ يُحْكَموا بالنظام الرأسمالي، ورضوا بغزوِه الفكري، صاروا يعانون العقدةَ تِلوَ العقدةِ، تتالت العقدُ عليهم واجتمعت، ومن هذه العقد التي كان للنظام الرأسمالي، والغزو الفكري، دورٌ كبيرٌ في إيقاعِ الناس بها عقدةُ مستوى الحياة.

 

يكادُ لا يرضى الكثير من الناس بما هم عليه من مستوى حياتِهم، ويكادون لا يرضون بما قسمَ لهم من رزق، كلٌّ يستمرُّ في النظر إلى من فوقَه، محاولاً الصعودَ ليكونَ في مرتبتِه أو أعلى منها، ويبقى هذا الهدفُ هاجسَهُ، يؤرِّقُه ليلَ نهار، لا يهنأ له نومٌ في ليل وهو يخطط ويبحث عن الوسائل والأساليب التي توصله ليكون في مرتبة من فوقَه، ولا يستقرُّ له في النهارِ قرارٌ، يدور ويحور، ويصولُ ويجول، باحثاً عن سبيل للارتفاع والارتقاء المادي، طارقاً كل باب.

 

فوقع هؤلاء الناس في شقاء مفهوم (مستوى الحياة)، وشقاء هذه العقدة، مع أنها صغرى، عقدة أنَّ مستوى الحياة الذي هو عليه، مما آتاه الله وقسمه له لا يناسبُ مثلَه، فتجدُه يخلطُ الأمورَ بعضَها ببعض فيقول: وهل فلانٌ أحسنُ مني؟ أو فلانٌ أقوى مني؟ أو فلانٌ أكثرُ مني تفكيراً وتدبيراً وتخطيطاً؟ وغير ذلك من الخلط، وتجاوزِ الحدِّ، والتطاولِ على اللهِ تعالى الذي قسّم بين الناس معيشَتَهم بحكمته البالغة.

 

ولو نظر كل واحدٍ من هؤلاءِ الموصوفين بما سبق أعلاه، لو نظر كل واحدٍ منهم إلى نفسه وواقعه وأهله وبيته وأولاده لوجد أنه لا ينقصُهُ شيءٌ، وأنَّ كلَّ حاجاته الضرورية مقضيةٌ، وربما كثير من حاجاته الكمالية متوافرةٌ عنده، ولكن مع كل هذا تجده لا ينظر إلى واقعه، وواقع من هو مثله، ولا إلى واقعِ من هو دونه، ليدركَ عظمَ نعمةِ الله تعالى عليه، بل ينظرُ إلى من فوقَه، فيزدري نعمةَ الله عليه، ويقلّلُ من شأنها.

 

إنّ الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدةِ الإسلامية حلَّ هذه العقدةَ الصغرى عند أصحابها ممن يعتنق هذا الحلَّ، ويرضى به حلاّ لعقدتِه الكبرى، ويفهَم ما جاء في هذا الحلِّ الشامل من حلولٍ منبثقة عنه لقضاياه الجزئيةِ اليسيرة، وجاءَ الحلُّ أنَّ الله تعالى هو الذي قسَمَ بين الناسِ معيشَتَهم، وهو الذي رفعَ بعضَهم فوقَ بعضٍ درجاتٍ ليعمل بعضُهم عندَ بعض، ويُعطي بعضُهم بعضاً أجرتَهُ لقاءَ عملِه عنده، وكونه مسخراً عنده لينجزَ له عمله، قال الله سبحانه وتعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ

 

الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم  بَعْضًا سُخْرِيًّا)  فما هو عليه الإنسانُ من مستوى حياتِهِ إنما هو بتقسيمِ اللهِ سبحانَه وحسنِ تدبيرِهِ وتقديرِه، ومن سعى إلى ما هو أكثر من ذلك جاءَه الجوابُ من الله سبحانه وتعالى: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) أي أن رحمةَ الله تعالى خيرٌ مما يجمعُه الجامعونَ من مالٍ ومتاعٍ زائلٍ من متاعِ الدنيا.

 

وردّاً على أولئك الذينَ يتطلعونَ إلى من فوقَهم في مراتب الدنيا، ويبررون تطلعهم ذاك بأنه ليس أحدٌ أحسنَ من أحدٍ، ولا أمهرَ من أحدٍ ولا أقدرَ منه على كسبِ رزقِهِ، ردّاً عليهم يقول الله سبحانه وتعالى: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا) فما أعطيَهُ هؤلاءِ الفقراء، وما أعطيَه هؤلاء الأغنياء إنما هو من عطاء الله سبحانه وتعالى، وله الحمد والشكر. بل إنّه سبحانه وتعالى يلفِتُ النظرَ إلى ذلك فيقول في الآية التالية: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)، ويضيف أن التفضيلَ الحقيقيَّ والكبيرَ بين الناسِ إنما هو في الآخرة.

 

كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يبيّنُ أنَّ ما يُؤتاهُ الناس من نعمٍ إنما هو متاعٌ للحياةِ الدنيا، لا يستحقُّ أن يُجْعَلَ غايةً ولا هدفاً في الحياةِ، وإنما يَتعاملُ معه الناس بما ييسرُ لهم حياتَهم في طاعةِ الله والقربِ منه، وفي حملِ دعوته، ثم البلوغ إلى التفضيل الحقيقيِّ في الآخرة، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ  لِلْمُتَّقِينَ).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الرابعة والثلاثون

 

 

نواصل حديثنا في عقدة مستوى الحياة:

 

وقد أنبأنا اللهُ سبحانه وتعالى عما هو خير من ذلك للذين اتقوا، فبعدما ذكر أن الناس زُيِّنَ لهم حب الشهوات من النساء والبنين والذهب والفضة والخيل والأنعام والحرث ذكر أن كلَّ ذلك إنما هو متاعُ الحياةِ الدنيا، وهو زائل، وينبئنا عما هو خير من ذلك: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ  وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ  الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ،  قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ  تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، والخيرُ من ذلك للمتقين هو الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والخلدُ المقيمُ في النعيم، مع الأزواجِ المطهرة، وفوقَ ذلك كله الرضوان من الله تعالى.

 

وأمرنا الله سبحانَه وتعالى أن نطلبَ الرزقَ ممن يملكُه، وهو اللهُ الرزاقُ ذو القوةِ المتينُ، وأنَّ طلبَه ليس بالعقل والتدبير والتخطيط، ولا بالتطلعِ إلى ما بين أيدي الناس منه، ولا بالتوجه إلى غير الله سبحانه، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن  دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ  وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فهو وحدَه المستحقُّ أن يُطلَبَ منه الرزقُ، وهو وحدَه المستحقُّ للعبادةِ، وهو وحدَه المستحقُّ للشكر، أفلا يكفي دليلاً على هذا أن الناسَ كلَّهم راجعونَ إليه بعد حين؟

 

إن هذه المفاهيمَ الصحيحةَ، وغيرَها مما جاءت به العقيدةُ الإسلاميةُ تُوجِدُ القناعةَ عندَ معتقدها، وتُوَلِّدُ عندَه الرضا بما قُسِمَ له، والطمأنينةَ أنَّ كلَّ رزقِهِ المقسومِ له سيأتيه بإذن اللهِ، فلا يفرضُ شروطاً للحياةِ التي يحبُّ أن يعيشَها، ولا يشترطُ على اللهِ تعالى كيف يرزقُه، بل إنه تتولّدُ لديه القناعةُ التامةُ والرضا، وينطلقُ في حياتِهِ بما آتاه الله سبحانه وتعالى إياه ينطلقُ لتحقيق عظائم الأمور ومعاليها، ولا يلتفت إلى حقيرِ الدنيا وسفسافِها، ولا يقعُ متاعُ الدنيا الزائلُ في قلبِهِ أدنى موقعٍ، ولا ينشغلُ بهذا المتاعِ يصلحُه ويجدّده ويبدّله، ظانّا أن هذا يزيد من هيبته عند الناس، ويرفعُ من مكانتِه وقدرِه، فإن حاجةَ الإنسانِ من الدنيا لا تتجاوزُ رغيفاً يأتيه كل يومٍ، ومن خلقَ السمواتِ والأرضَ في ستةِ أيامٍ ولم يعيَ بخلقِهِنَّ لا يُعْييهِ رغيفٌ يسوقُه كل يومٍ لكل واحدٍ من عبيدِه.

 

إن السعيّ الحقيقيَّ لمستوىً حقيقيٍّ عالٍ من الحياة إنما هو السعيُ للآخرة، للفوز فيها وبما فيها، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ  سَعْيُهُم مَّشْكُورًا)، وإنّ ما جعلَه اللهُ سبحانَه من زينةٍ على الأرضِ إنما ليبتلينا أيّنا أحسنُ عملاً، قال سبحانه: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، والأحسنُ عملاً هو الأحسنُ جزاءً يوم القيامة، وهو الأعلى في مستوى الحياة هناك، ولو اتسع المجال لذكرنا نماذج من علوِّ المراتبِ في الآخرة، مما يستحق أن يتنافسَ فيه الناسُ، ويقدّموا في سبيلِه كل ما يملكون، وكل ما يستطيعون.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الخامسة والثلاثون

 

 

خامسَ عشَرَ: عقدة الأولاد والبنات

 

لقد منَّ الله على عبادِه بأن خلقَ لهم من أنفسِهم أزواجاً، وجعلَ لهم من أزواجهم بنين وحفدة، فقال سبحانه وتعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ  الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)، ووضع في فطرة كل إنسانٍ ما يدفعه لحفظ نوِعِه البشريِّ، وبهذا التقديرِ من الله سبحانه وتعالى استمرَّ الجنسُ البشريُّ منذ آدمَ عليه السلام وإلى يومنا هذا، وبهذا يستمرُّ إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها.

 

ولكن الشياطين لم تتركْ للبشرِ باباً ينفذون منه إلى معصية الله ومخالفة المفاهيم الصحيحة التي أرسلها الله سبحانه وتعالى مع رسله، لم تترك باباً إلا وفتحتْه لهم، فوجد فيهم من يئدُ البنات، ووجدَ فيهم يُفضّلُ الأولادَ على البنات، ووجدَ فيهم من يبتعد عن إنجاب الأولاد والبنات بتأثير من المبدأ الرأسمالي الغربي، وغزوِه الفكري، ووجدَ فيهم من يقتصر على واحد أو اثنين، ويتعذّر بذلك بقوله: حتى يستطيع تربيتهم، وتنشئتهم وتعليمهم، حتى يحفظ لهم مستوى معيناً من العيش، وكأنه هو الذي خلقهم ورزقهم، ونجدُ فيهم من يغلبُ مظاهرَ البقاءِ عندَه على كثير من مظاهر النوعِ، فلا يسمح لأحدٍ أن يشاركَه حياته ووقته ومتعته، ووجدَ فيهم من يضحّي بدينه من أجل أولاده، ومنهم من يرتكب الحرام لأجلهم، ونجدُ من الناس من يفضلُ أولاده على الله ورسوله والجهاد في سبيله.

 

يخطئُ كثير من الناس بقولهم: نريد أن نحفظ لأولادنا مستوى عالياً من العيش، ويقولون: واحد واثنان يمكن  أن تكفيهم حاجاتهم بمستوى مرتفع، ولو كانوا أكثر، لتقسّمَ الدخلُ على عدد أكبر، فيتدنى المستوى الذي سيناله كلُّ واحدٍ، يقولون هذا القول ويظنون أنهم هم الذين يرزقون أولادهم، فيخترعون فكرة التقسيم، فيجعلون المقسوم عليه قليلاً ليكون الناتج لكل واحد أكبر، وما دَرَوْا أنَّ الله تعالى قسَم لكل ولدٍ رزقه، وقسم لكل بنتٍ رزقها، ومهما بلغ عددهم فإنّ الله تعالى لم يخلق مخلوقاً دون أن يقسمَ له رزقه، فيتألّوْنَ على الله تعالى بما يسوّلُه لهم الشيطان، ويمنيهم فيه.

 

إن حفظ النوع البشري أم غريزيّ عند الإنسان، يتمثل في مظاهر متعددة، تسبب القلق للإنسان إن لم يتمَّ إشباعُها بنظام صحيح، وربما تكون مصدر شقاء للإنسان، فيشقى الإنسانُ بما يحملُ من مفاهيمَ ما أنزل اللهُ بها من سلطان، كمثل التي ذكرناها أعلاه.

 

إن من أول ما قررته العقيدة الإسلامية –الحلُّ الصحيحُ للعقدة الكبرى- أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي يَهَبُ عبادَهُ الإناث، ويهبهم الذكور، ويهبهم الذكور والإناث، ويجعلُ من يشاءُ عقيماً، فهو مالك السموات والأرض وما فيهما، قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الشورى: (} لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا  وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). فهي نعمةٌ من نعمِ اللهِ على الإنسانِ، يحتاجُ الإنسانُ أن يكونَ عندَه أولادٌ وبنات، يعينونه في هرمِه، فمنَّ الله سبحانه وتعالى علينا بذلك، فله الحمد وله الشكر. قال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ)، وأخبرنا سبحانه أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)، ولكنّ الذي هو من المال والبنين هو الأعمال الصالحة التي تبقى إلى يوم القيامة، يحتسبها الله سبحانه في سجل عبدِهِ.

 

ومنفعة الأولاد والبنات لآبائهم هي في الدنيا فقط، ولا يناله منهم إلا ما قدّمه لهم من تربية صالحة يؤجرُ عليها، وما يقدمونه له من دعاء بعدَ موتِه، أما يوم القيامة فإن كل الأسباب بين الناس تتقطع، وحينها لا ينفع ولدٌ أباه، ولا أبٌ ولدَه، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)، بل في ذلك اليوم كل قريبٍ يهربُ من قريبِه، يقول عزّ وجلَّ: (} يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ،  وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ  يُغْنِيهِ) فلا أحدَ ينفعُ أحداً لم يكن نفعَه من قبلُ، بل إن المجرمُ يودُّ لو افتدى نفسَه من النارِ بأولاده: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ)، وحينها لا ينفعُ إلا من جاءَ ربّه بقلبٍ سليم، مؤمنٍ بالله عاملٍ للصالحات: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السادسة والثلاثون

 

 

نواصل حديثنا مع عقدة الأولاد والبنات:

 

وقد حذّرَنا سبحانه وتعالى أن ننشغلَ عن ذكر الله بأولادنا، أو بأموالنا، وحذّرنا أن في ذلك الخسرانَ المبين: قال سبحانه: ( يَا  أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ  أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، بل حذّرنا أن منهم من هو عدوٌّ لنا وعلينا أن نحذّرَهُ، وكذلك إن منهم من هو فتنة لنا، فعلينا أن نحذرَ هذه الفتنة، فقال سبحانه: (} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ  فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن  يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وهنا إشارة إلى أن الولدَ ربما كانَ سبباً للبخل، يدفعُ أباهُ للشحِّ والبخلِ فحذرّنا الله سبحانه وتعالى من ذلك، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُهُ: (إن الولد مبخلة مجبنة محزنة)، فالولدُ يسببُ الحزنَ لأبيه، ويدفعُهُ للجبنِ خوفاً على ولده، ويدفعُهُ للبخل من أجل ولدِه، فعلى الأب أن يتنبّه لهذا، ولا يجعلْ ولدَه مانعاً له من ذكرِ الله، والقيامِ بما أمر الله سبحانَه وتعالى من فروض وواجبات.

 

وقد أخبرَ اللهُ سبحانَه على لسان نوحٍ عليه السلام، أن الكفارَ ازدادوا كفراً وخسراناً بسبب أموالهم وأولادهم، فقال سبحانه: (قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا).

 

 وقد ابتلى اللهُ سبحانَه وتعالى بعضاً من عبادِه بأن جعله عقيماً، لحكمة يعلمها الله سبحانه، فعلى المبتَلى بهذا الابتلاء أن يصبرَ ويحتسبَ، لأنّ هذا يدخلُ في باب القضاء والقدر، وموقف الإنسان تجاهه الصبرُ والاحتساب.

 

وجعلَ الله سبحانَه وتعالى الاستفغار سبباً لزيادة الرزق والمال والولد، فقال على لسان نوحٍ عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا،  يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا)

 

ونهى الإسلام عن تفضيل أحد الأولادِ على الآخرين، أو بعضهم على بعض، أو تفضيل الأولاد على البنات، وأمر بالمساواة بينهم في كل شيء، كالعطية مثلاً، روى مسلمٌ عن النعمان بن بشير قال: أتى بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما. فقال: (أكل بنيك نحلت؟) قال: لا. قال( فاردده ).

 

وقد انساق بعضٌ من أبناء المسلمين اليوم وراء الحضارة الغربية، وغزوها الفكري، فتأثروا بالغربيين في النظرة إلى الأولاد والبنات من جهة أنهم عبءٌ كبيرُ يثقلُ كاهلُهم، ويتعلّلون لذلك بارتفاع تكلفة الحياة، وتغيرها، فقللوا عددَهم، وهذا إنما هو سوءُ ظنٍّ بالله سبحانَه، فهو الرزاقُ دونَ شكٍّ، ويقسمُ لكل مولود رزقه حتى يموت، فرزق الأولاد ليس على آبائهم، وإن كان آباؤهم غالباً طريق ذلك الرزق، يقول الحق جلّ وعلا: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ) فحرّمَ قتلَهم بسبب الفقر، وقال سبحانه: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم) فحرّمَ قتلَهم خَشيةَ الفقر مستقبلاً، وأخبرَ أنه الرزاق لنا ولهم، ولهم ولنا.

 

بهذا تكونُ النظرةُ الصحيحةُ المنبثقة عن العقيدةِ الإسلاميةِ –الحلِّ الصحيحِ للعقدةِ الكبرى-، فيسيرُ الإنسانُ في حياتِه مفوّضاً أمرَه وأمرَ أولادِه إلى الله تعالى، لا يخافُ عليهم شيئاً، ولا يخشى عليهم فقراً، فلا ينشأ عنده قلقٌ ولا اضطراب.

 

ونبقى مع هذه الآيات البينات المتعلقة بالأولاد في نهاية حديثنا:  (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ)

 

 (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

 

لَا يَعْلَمُونَ ، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ  بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)

 

(قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)

 

 (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ

 

أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْ لَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي

 

مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة السابعة والثلاثون

 

 

سادسَ عشَرَ: عقدة الغرور، الكبر، الشعور بالعظمة، تضخم الذات...

 

إنّ من أجابَ أسئلةَ العقدةِ الكبرى إجابةً عقليةً صحيحة مقنعة، وارتضى العقيدة الإسلاميةَ حلاًّ لهذه العقدةِ لا يتسرّبُ الكبرُ أو الغرورُ أو الشعورُ بالعظمةِ إلى نفسِهِ، لأنّه أدركَ حقيقةَ نفسِهِ، وأدركَ أنّه مخلوقٌ لخالقٍ خلقَه من العدمِ، وأنّ أصلَه من ترابٍ، ثم من نطفةٍ أمشاجٍ، أي مجموعةِ أخلاط من موادَّ مختلفة، ثم من علقةٍ، ثم من مضغة، ثم تحولت المضغة عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً، ثم تحوّل إلى خلقٍ آخر، قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) فصار جنيناً ضعيفاً في بطن أمّه، لا حول له ولا قوة، ثم خرج من بطنِ أمه إلى الدنيا لا يعلمُ شيئاً، قال سبحانه وتعالى: (} وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )، فخرج إلى الدنيا لا يعلمُ شيئاً، وقد آتاه الله أدوات التعلم والاتصال بالعالم الخارجي من حوله، الحواس، يتعلم عن طريقها، وآتاه العقل ليختزن فيه المعلومات السابقة ثم ينتفع بها وبعقله، بالتفكير، وتكوين الرأي واتخاذ القرار. هذا الإنسان خلق من ضعفٍ ليصير قوياً، ثم ليعودَ ضعيفاً كما بدأ، قال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).

 

والله خلقَه وصوّره وأحسنَ خلقَه، وجعل فيه قابلية الهداية والضلال، ورزقه من الطيبات، وسخّرَ له ما في الأرض جميعاً، وقدّرَ فيه من الخواص الجسمية والنفسية والعقلية ما يمكّنه من استغلال ما حوله في الكون، وخلق لنا أزواجاً من أنفسنا، وجعل لنا من الأزواج بنين وحفدة. فلله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل شيءٍ.

 

والسؤال الآن: لماذا يصيبُ الغرورُ والكبرُ بعضَ الناس؟

 

والسؤال لهم: هل عرفوا حقيقةَ أنفسهم؟

 

بأي حقٍّ يتكبَّرُ الغنيُّ واللهُ هو الذي رزقه ما رزقه، وآتاه ما آتاه؟

 

بأيِّ حقٍّ يتكبرُ القوي والله هو الذي قدّر فيه القوةَ، وآتاه أسبابَها؟

 

بأيِّ حقٍّ يتكبَّرُ العالمُ والله هو الذي علّمَه، وآتاه وسائلَ التعلمِ وأداةَ التعلمِ؟

 

بأيِّ حقٍّ يتكبّرُ الكبيرُ على الصغيرِ، والله هو الذي مدَّ له في عمرِه ليصيرَ كبيراً؟

 

بأيِّ حقٍّ يتكبرُ الرفيعُ على الوضيعِ واللهُ هو الذي رفعَ قدرَ هذا، ووضعَ قدرَ ذاك؟

 

لو سألنا المتكبرَ أيضاً:

 

هل يملك أن يجلبَ لنفسِهِ نفعاً بغير تقديرِ الله؟

 

وهل يملكُ أن يدفعَ عن نفسه ضراً بغير إرادةِ الله؟

 

(قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).

 

هل يعلمُ ماذا يكسبُ غداً؟ هل يعلمُ بأيِّ أرضٍ يموتُ؟ هل يستطيع دفعَ الموتِ عن نفسه؟ أو عن ولده؟

 

صدقَ الله سبحانه إذ قال: (} أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ)، خلقَه اللهُ سبحانه وتعالى من نطفةٍ لا تراها العينُ المجرّدةُ، وفجأةً تحوّلَ هذا المخلوقُ الضعيفُ إلى مخاصمٍ لله تعالى!!

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثامنة والثلاثون

 

 

نواصل حديثنا مع عقدة الغرور:

 

إن غيابَ المفاهيمِ الصحيحةِ عن الإنسانِ يجعلُه يرى نفسَه على غيرِ حقيقتِها، فيحسُّ بذاته، بل تتضخمُ ذاته لتصيرَ أكبرَ من حجمِها الطبيعي، حجمُها الطبيعي أنها مخلوقةٌ لله تعالى، تدينُ له بالعبودية، وتمتثل أوامرَ الله تعالى ونواهيَه، وتدركُ أنَّ كلَّ ما أوتيتْهُ إنما هو من عند الله، ومن كرمِ الله تعالى، ومن فضله عليها، ومن نعمِهِ عليها، وتدركُ أنها لا تملك شيئاً من النفعِ والضرِّ، لا لنفسها ولا لغيرها، هذا الرسولُ الذي اصطفاهُ اللهُ سبحانه وتعالى واختاره يأمرُه الله تعالى أن يقول: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فإن كان الرسولُ لا يملك لنفسه شيئاً إلا بإذن الله، وهو من هو عندَ الله تعالى، فما بالُنا بأنفسنا؟

 

المفاهيم الصحيحةُ المنبثقةُ من الحلِّ الصحيحِ للعقدةِ الكبرى –العقيدة الإسلامية- يقضيْ أن يعرفَ الإنسانُ قدرَه فلا يتجاوزَهُ، وعليه أن يدركَ أنه واحدٌ من عبيدِ اللهِ المخلوقين الضعفاء الفقراء، فمهما اغتنى فإنه لا يستغني عن الله، ومهما أوتي من علم فلن يستغني عن الله، ومهما صارَ قوياً فإنّه بالله ومن الله أوتي هذه القوة، فلا يتكبّرُ على عباد الله، ولا يرى نفسه فوقهم.

 

وليتصوّر المتكبر نفسه قبل أن يولّدَ وحين ولادته؟ وليتصور نفسه بعد موته، وليرَ الدودَ يرتعُ في بدنِه.

 

حرّمَت العقيدةُ الإسلاميةُ الكِبرَ والغرورَ، وجعلت عاقبتَه الذلَّ والهوان والصغارَ يوم القيامة، فالمتكبرون يحشرونَ كالذرّ في صور الرجال، يطؤهم الناس بأقدامهم، ثم تكون جهنمُّ مثواهم، يقول الله سبحانه وتعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ)، ويقول أيضاً: (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).

 

والله سبحانَه، المستحقُّ وحدَه للكبرياء، فهو المالك الحقيقيُّ لكلِّ شيءٍ، وهو القادرُ على كل شيءٍ، وهو الغنيُّ، وهو المحيطُ علمُه بكل شيءٍ، فكيفَ لهذا المخلوقِ الضعيف أن ينازعَ اللهَ سبحانَه وتعالى الكبرياء؟ قال الله سبحانه: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

 

والمتكبرُ يُطبَعُ على قلبِهِ، فلا يعودُ يبصرُ، ولا يعودُ يسمعُ، ولا يعودُ يفقَه، فيفقدُ البصرَ والبصيرةَ، وتنسدُّ في وجهِه أبوابُ الهدايةِ ما دامَ متكبراً، يقول الله سبحانه وتعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ).

 

والمتكبرُ محرومٌ من دخولِ الجنة، روى ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنةَ من كان في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من كبرٍ).

 

ومن ابتغى أن يرتفعَ قدرُه في الدنيا والآخرة فعليه بالتواضع، فقد روى مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).

 

وإبليسُ أولُ من استكبرَ، أمرَ بالسجودِ لآدمَ فاستعظمَ ذلك، وقال إنه خيرٌ من آدمَ، خلقَ من نارٍ وآدمُ خلقَ من طين، فرأى أن النارَ خيرٌ من الطينِ، فاستكبر عن أمرِ الله، فاستحقَّ غضبَ اللهِ ولعنتَه، وطردَ من الجنةِ، ثم أنظرَهُ الله تعالى إلى يوم القيامةِ، لينالَ جزاءَه في جهنمّ. فالموقف الصحيح أن يمتثلَ العبدُ لأمرِ اللهِ تعالى، دونَ أن يُعِمِلَ عقلَه في واقع الأمرِ، لأنَّ الأمرَ إن صدرَ من صاحبِ الأمرِ فإنّه لا يحتملُ إلا التنفيذ، ولا يحتملُ المناقشةَ أو الردَ والرفض. لكنه الكبرُ الذي أعمى بصرَه وبصيرتَه، فأحلّه دارَ البوارِ، وبئس المصير.

 

فالعقيدة الإسلاميةُ- التي هي الحلُّ الصحيحُ للعقدةِ الكبرى- وضعت الإنسانَ موضعَه الصحيحَ الذي لا يجوزُ له أن يتجاوزَه، فإن فعلَ فقد ظلم نفسَهُ وأوردَها مواردَ الردى، وأرداها في الحضيض، ومن وضعَ نفسَه موضعَها الصحيح بالتواضعِ أعزّه الله تعالى، ورفعَ قدرَه في الدنيا والآخرة.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة التاسعة والثلاثون

 

 

سابعَ عشر: عقدة العلاقة مع الدنيا

 

إنّ العاقلَ الحصيفَ يدركُ القيمةَ الحقيقيةَ للدنيا، بأنها:

 

-دار ممرٍّ، وليست دارَ استقرارٍ وإقامةٍ وخلود.

-دار عمل وابتلاء واختبار، وليست دارَ جزاء وتمتّعٍ.

-دار كبدٍ ومعاناة، وليست دار راحةٍ وطمأنينة.

-وما فيها متاعٌ زائلٌ، متاعٌ خادعٌ، ولا تستحق التضحيةَ من أجلِها.

 

والعاقلُ الحصيفُ أيضاً يحدّدُ علاقتَه بها، على أنها كعلاقةِ الغريب في بلدٍ، أو عابرِ سبيل.

 

يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ  وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).

 

والأصلُ في العاقلِ الحصيفِ أن يؤثرَ الحياةَ الآخرةَ على الحياةِ الدنيا، ليفوز في الآخرة، وتكون الجنةُ مثواه. ولكن من آثرَ الحياةَ الدنيا، فإن العذابَ مصيرُه في الآخرة، والجحيمَ مأواه، قال سبحانه: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى ، فَأَمَّا مَن طَغَى ، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى). وقال سبحانه: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

 

ولكنّ كثيراً من الناسِ تغرُّهم الحياةُ الدنيا، فتسلبُ منهم عقولَهم وقلوبهم، وتعمي بصائرَهم وأبصارَهم، وتصمُّ آذانهم، فلا يسمعونَ الحق، معَ أنّ الله سبحانَه وتعالى أرسلَ رسلاً ليبينوا للناس حقيقةَ دنياهم، وأنّ الآخرةَ خيرٌ وأبقى لهم، فقال سبحانه: (} يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ)، وقد أمرَ الله عزّ وجلَّ بالابتعاد عن أهل الدنيا الذين غُرُّوا بها، فخاطبَ رسولَه قائلاً: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). وبيّن اللهُ نهاية الدنيا باليوم الآخر الذي لا ينفعُ فيه شيءٌ من متاعِ الدنيا، ولا تنفعُ فيه علاقات الدنيا إلا ما قام منها على التقوى، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ).

 

إنّ حبَّ الدنيا أمرٌ فطريٌّ عندَ الإنسان، فهو مظهرٌ من مظاهرِ غريزةِ البقاء، لإنّ بقاءَه الذي فُطِرَ أنْ يُحافِظَ عليه هو يبدأ بالبقاءُ في الدنيا، مع أنه يدركُ بعقله، ويشاهدُ بحسِّه أنه ليس باقياً فيها.لكنّ وجودَه يتعلّق بها، فإن أصابته الغفلةُ، وغُشِّيَ على بصرِه نسيّ هذه الحقيقةَ، وظنّ أنّه مخلّدٌ فيها.

 

والنظرةُ الصحيحةُ للدنيا ولكلِّ ما فيها أنها يُتَوَصَّلُ بها للآخرة، فيستخدمُ الإنسانُ ما يُتاحُ له منها في طاعةِ الله، ويجتنبَ معصيته، فيكون قد أخذها بحقّها، وأدّى حقّ اللهِ فيها، ولا يكون قد ظلمَ نفسَه. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

 

روى البخاريُّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (فواللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخْشَى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم).

 

وعليه، فإنّ الدنيا لا تصلحُ أن تكونَ غايةً ولا هدفاً.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الأربعون

 

 

نواصل حديثنا مع عقدة العلاقة مع الدنيا:

 

وعليه فإن الدنيا لا تصلح أن تكون غاية ولا هدفاً، بل إن الغايةَ الحقيقية والهدفَ الأسمى هو ما يقتضيه الحلُّ الصحيحُ للعقدة الكبرى، وهو جعلُ الآخرةِ هي الهدفَ والغايةَ.

 

إن من جعلَ الدنيا غايته فرّقَ اللهُ عليه أمرَه، وجعلَ فقرَه بين عينيه، وفي النهاية لا يأتيه من الدنيا إلا ما قسمه الله سبحانه له، ومن جعل الآخرةَ غايتهَ وهدفَه جمعَ الله له أمرَه، وجعلَ غناهُ في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، وفاز في الآخرة برضوان الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا نيتَه فرّق الله عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له، ومن كانت الآخرةُ نيتَه جمع الله له أمرَه، وجعلَ غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة).

 

وقد أمرنا باتقاء الدنيا، واتقاء ما فيها من فتنٍ، وبخاصةٍ فتنة النساء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن اللهَ مستخلفُكم فيها فناظرٌ ما تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).

 

لقد ضربَ اللهُ سبحانَه مثل الحياةِ الدنيا بالماءِ الذي أنزلَه الله سبحانه من السماء، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، فإذا تزيّنت الأرض واخضرّت جاءها أمرُ الله ليلاً أو نهاراً، فجعلها حصيداً، وهذا مثلٌ ضربه الله سبحانه وتعالى لمن يتفكرّ، أي للعاقل، الذي يستخدمُ عقلَه، فيشاهدَ الواقعَ ويربطُه بمعلوماته السابقة، ويرى هذه الحياة المتجددة على الأرض، ويرى أن الحياة كلها مثل حياة واحدة على الأرض، خلقٌ فنموٌ فهرمٌ فموت، وهكذا الحياة الدنيا، يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

 

فعقدةُ الدنيا تنشأ من خطأ النظرةِ إلى الدنيا، وينشأ عنها أمراضٌ نفسيةٌ تقضُّ مضجعَ الإنسانِ وتؤرقُه، فيتفرقُ على الإنسانِ أمرُه، ولا يستطيعُ الإحاطةَ بأمورِه، وتتفلت منه واحدةً بعد الأخرى، ويقضي جلَّ وقتِه في لملمةِ أمورِه، وجمعِها ليحسنَ السيطرةَ عليها، وأنّى له ذلك، فإنّ الله تعالى فرَّق عليه أمرَه لما جعلَ الدنيا نيته وأكبرَ همه.

 

ومهما امتلك هذا الإنسانُ صاحبُ العقدةِ فإنه سيبقى يرى نفسَه فقيراً، مهما أوتيّ من مالٍ ومهما أوتيَ من متاع الدنيا، ذلك أن الله تعالى جعلَ فقرَه بين عينيه لمّا جعلَ الدنيا نيتَه وأكبرَ همه.

 

ومهما سعى وجدّ واجتهدَ في دنياه فإنّه لن يصيبَه إلا ما كتبَ له، ولن يناله إلا ما قسمه الله سبحانه له، ولكنّه يبوء بغضبِ اللهِ تعالى، إذ صرَفَ همّه في الدنيا يجمعها للهلاك والبوار.

 

ومن الوبال الشديد على البشرية اليوم المبدأ الرأسماليّ، الذي صرَفَ الإنسانَ عن الحلِّ الحقيقيِّ الصحيح للعقدةِ الكبرى، فجعل جلَّ الاهتمامِ للدنيا وشهواتها وملذاتها، وجعل الدنيا محلّ اقتتال وخصام بين البشر، أفسدَ الناسَ وأفسدَ العلاقاتِ بين الناسِ، ولَخَّص علاقاتهم بما يحققه كل منهم من مصلحة من الآخر، وصارت أهميةُ الإنسانِ بقدرِ ما يملكُ من هذه الدنيا، فمن ملك الكثيرَ ارتفعت قيمته، ومن لم يملك إلا القليل قلت قيمته، حتى إن الإنسانَ صار سلعةً من السلعِ يتاجرُ بها أصحابُ رؤوس الأموال، ويتحكمون في البشر، وفي أرزاق البشر. أنتجَ هذا المبدأ أمراضاً نفسيةً لم تشهدها البشرية من قبل، جردّ الإنسانَ من إنسانيته، وأفقدَه كرامتَه التي أكرمَه الله سبحانه وتعالى بها، أكرمه بأن جعله عبداً له، لكن الرأسمالية أهانته وأذلته لما صنعت منه إلهاً يقضي ويحكم بما يوحيه إليه شيطانه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الحادية والأربعون

 

 

ثامن عشرَ:عقدة الشح

 

الشُّحُّ مظهرٌ من مظاهرِ غريزةِ البقاءِ، يتكوّنُ من حرصٍ على فواتِ خيرِ، ومن خروجِهِ من يدِ صاحبِه، ولذلك فهو عملٌ قلبيٌّ، ينتجُ عنه سلوكٌ ذميمٌ، وفعلٌ قبيحٌ وهو البخلُ. فالشحُّ حرصٌ مع بخلٍ، قال الله سبحانه وتعالى: (وَأُحْضِرَتِ  الأَنفُسُ الشُّحَّ) أي: ملازمة الشح للنفوس البشرية حتى كأنه حاضر لديها، ذلك أنّه جِبِلِّيٌ مفطورٌعليه الإنسانُ. وأصل الشحِّ في كلام العرب: البخلُ بالمالِ، وفي الحديث الذي رواه البخاريُّ عن أبي هريرة رضيَ الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)، ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها، ومنه المشاحة، وعكسه السماحة في الأمرين.

 

يقولُ اللهُ سبحانَه وتعالى: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا)، فهذا وصفٌ دقيقٌ من اللهِ سبحانَه وتعالى لهذا الإنسانِ الذي خلقَه، ويعلمُ ماذا ركّبَ فيه، ممسكٌ خشيةَ الإنفاقِ، وشديدُ التقتيرِ في النفقةِ، ولذلك فإن الإنسانَ المجرّدَ من المفاهيم الصحيحةَ تكونُ هذه حاله، ولا تأتي المفاهيم الصحيحةُ إلا من الحلِّ الصحيحِ للعقدةِ الكبرى، بالعقيدةِ الإسلاميةِ تحديداً، ولا غير.

 

والشحيحُ يندفعُ في شُحِّه من غريزةِ البقاء، وكذلك المنفقُ يندفعُ في إنفاقِه من غريزةِ البقاء، فالشحُّ غالباً مذمومٌ، والإنفاقُ الموافق للشرعِ ممدوح.

 

والشحُّ صفةٌ مذمومةٌ، جاءت العقيدةُ الإسلاميةُ على تخليص نفوسِ أتباعها منها، فقد مدحَ اللهُ سبحانه وتعالى الأنصارَ بأنهم يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وعقب بعد هذا المدح بمدح من وُقيَ شُحَّ نفسِه، فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُ وا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ  يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

 

وذمَّ المنافقين بهذه الصفة، صفةِ الشُّحّ فقال سبحانه وتعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ، أَشِحَّةً  عَلَيْكُمْ)، وقال أيضاً سبحانه وتعالى في الآية نفسها: (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ).

 

والشُّحُّ مهلكٌ لصاحبِه، فهو يجعلُه دائمَ الحرصِ على تحصيلِ الخير، ودائمَ الحرصِ على المحافظة في ما بين يديه، ويجعلُه دائمَ الغيظِ إن فاته ما كان ينتظره من خيرٍ، ودائمَ الحسرةِ إن فَلَت من يديه ما كان حريصاً على بقائه فيهما، فهو كثير الأسى والقلق على ما يفوتُه ولا يستطيع تحصيلَه، وكثير الأسى والقلق على ما لا يستطيع المحافظةَ عليه من مالٍ أو غيرِه. فيقع في عقدة الشحّ وما ينتجُ عنها من قلقٍ وأسىً وحسرةٍ.

 

وقد أخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن جابرِ بنِ عبد الله: (اتقوا الظلم. فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) فقد دفعَ الشحُّ الأقوامَ السابقينَ لأن يقتتلوا في سبيل الحرصِ على المالِ، فسفكوا دماءَهم، واستحلّوا محارمَهم.

 

وأخبرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن كثرةَ الشحِّ من علامات آخرِ الزمان، فقد روى مسلمٌ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج) قالوا : وما الهرج ؟ قال (القتل).

 

ومن ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدة الإسلامية سعى جاهداً للتخلّص من سمةِ الشَّحِّ، واجتنبَ البخلَ، وأنفقَ مما آتاه الله بحسب ما أمرَ الله تعالى، فلا يقصّرُ في نفقةٍ واجبةٍ، ولا يتردد في فعلِ مندوبٍ، من الصدقات المندوبة، ويوسّع على نفسِهِ وعلى أهلِ بيتِه ما دامَ قادراً.

 

كما أنّه لا يأسى على خير فاته، وقد كان يتوقعُ مجيئَه، لإدراكِه أن ما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وما أصابه لم يكن ليخطئَه.

 

والإيمان الصحيحُ الصادقُ يطردُ من قلبِ صاحبِه أيَّ ميلٍ للشَّحِّ، ونجدُ فروعاً من الإيمانِ خاصّةً بتهذيب دوافع الإنسان المختلفة، ومنها دافع الشحّ والحرص وما ينتج عنهما من بخلٍ، فالمؤمن يوقنُ أنّ اللهَ سبحانه هو الرزاقُ، وأنه قسم لكل عبدٍ رزقَه، فلا يأسى على شيءٍ فاته، ولا يفرحُ بشيءٍ أوتيَه، روى ابنُ جريرٍ الطبريُّ عن أبي هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً).

 

وقد قالَ الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فما فاته من رزقٍ لم يكن مقسوماً له فلنْ يأتيَه، وما أتاه فهو المقسومُ له، والله تعالى هو الذي قسّمَ الرزقَ بينَ عبادِه، فوسّع على بعضهم لحكمةٍ أرادها، وضيّقَ على آخرينَ لحكمةٍ أرادها. وأخبرنا سبحانَه أن يُخْلِفُ على من أنفقَ، وهو سبحانه خيرُ الرازقين. 

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الثانية والأربعون

 

 

وقد بشّرَ الله سبحانَه وتعالى المنفقَ بالإخلافِ والتعويض عليه، وبشَّر الممسكَ الشحيحَ بالإتلاف، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

 

وعليه فإن الشحيحَ ممقوت إلى نفسِه بكثرةِ حسرتِه وأساه، وممقوتٌ من الناسِ بتقصيرِه في الحقوق التي عليه بسبب شُحِّه، وممقوتُ من الله تعالى، ومن رسولِه صلى الله عليه وسلم. روى مسلمٌ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك  قوته)

 

والمنفقُ محبوبٌ إلى نفسِهِ بطاعتِه لله سبحانَه وطمأنينته إلى رزقه، ورضاه وقناعتِه بما قُسِمَ له، فلم يفتْهُ ما هو مقسومٌ له، ولم يأتِه ما لم يُقسَمْ له، ومحبوبٌ إلى الناس بقيامِه بواجباته في النفقات الواجبة عليه، بل المندوبةِ أيضاً، وينتفعُ مما رزقه الله بتوسعته على نفسِهِ وعلى أهلِه، فقد وردَ في الحديثِ الصحيحِ عن عائشةَ رضي الله عنها قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، والمنفقُ محبوبٌ إلى الله تعالى لأنّ الله مدحَ المنفقين على كافّة أحوالهم وأوقاتهم، ما دام الإنفاق ضمنَ الأحكامِ الشرعية المنبثقة عن الحل الصحيح للعقدة الكبرى، فَتُحَلُّ لديهم عقدةٌ من العقد الصغرى بحلِّ العقدةِ الكبرى.

 

إن الإيمانَ بأنَّ الرزقَ بيد الله وحدَه لا يجتمع مع الشحِّ في قلب امرئ مؤمن، فإن استحقَّ عليه ما ينفقُه بادرَ إلى إنفاقِه مقتدياً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الذي نزلَ عن المنبر وقطع خطبته، ودخل بيته ثم عاد، ولما سئل أجاب صلى الله عليه وسلم أنّ في بيته ديناراً من الصدقة، فخشيَ أن ينساه ويبيتَ في بيته تلكَ الليلة، فهو صلى الله عليه وسلم أن كل يومٍ يأتي على العبد يأتيه فيه رزقه، والمؤمنُ كذلك، فإن لنا في رسولِ الله أسوةً حسنةً، ومن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ينفقُ وصفه: بأنه يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقرَ.

 

فكيفَ يخشى الفقرَ من ارتضى الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدةِ الإسلامية؟ كيف يخشى الفقرَ وهو مؤمنٌ أن خزائنَ السموات والأرض بيد الله سبحانه، وأنه كغيرِهِ من مخلوقاتِ الله تعالى رزقُه على الله سبحانه؟ (وَمَا مِن دَابّةٍ في الأرضِ إلا ّعَلَى اللهِ رِزْقُهَا).

 

روى المنذريّ عن قيسِ بنِ سلعٍ الأنصاري أن إخوته شَكَوْهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه يُبَذِّرُ مالَه ويَنْبَسِطُ فيه، قلت: يا رسول الله، آخذ نصيبي من الثمرة فأنفقه في سبيل الله وعلى من صحبني، فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صدرَهُ وقال: (أَنْفِقْ يُنْفِقِ اللهُ عليك) ثلاث مرات، فلما كان بعد ذلك خرجت في سبيل الله ومعي راحلة وأنا أكثرُ أهلِ بيتي اليومَ وأيسرُهُ.

 

والمواقف والأمثلة في الحياة وفي التاريخ كثيرة، والأدلة الشرعية في الكتاب والسنة كثيرة، وسيرةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حافلةٌ بمثل هذه المواقف التي تعبّر عن الحلِّ الصحيحِ لعقدةِ الشحِّ، وكذلك في سيرة الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين.

 

فالحلُّ الصحيحُ هو التخلّصُ من هذه الصفة القبيحةِ، والتمتع بصفة الإنفاق وميزة الكرمِ، وربطُ الرزقِ بصاحبه الحقيقي وهو الله تعالى، والإنفاق امتثالاً لأمره، ليُخْلِفَ على المنفقِ خيراً، ويملأ نفسَه رضاً، وقلبَه طمأنينة.

 

 

كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير

أبو محمد – خليفة محمد - الأردن

رابط هذا التعليق
شارك

بسم الله الرحمن الرحيم

العقدة الكبرى والعقد الصغرى

الحلقة الرابعة والأربعون

 

 

نواصل حديثنا مع عقدة النظرة الخاطئة إلى المرأة:

 

وبما أن الميل الجنسي مظهرٌ غريزي، مظهرٌ من مظاهر غريزة النوع، والغرائز تتميز بكون إثارتِها خارجيةً، منعت العقيدة الإسلامية الإثارةَ في الحياةِ العامة، فجعلَ لكل من الذكرِ والأنثى حدوداً في لباسه وسلوكه وتصرفاته، فلا يبدر منه ما يؤدّي إلى الإثارة، ويعيشُ الناس في أعمالهم في الحياة العامة دون وجودِ ما يصرفهم عن عملهم. وأوجبَ على كل من الرجلِ والمرأة غضّ البصر للابتعادِ عن الإثارةِ في غير محلِّها، وأوجبَ عليهم أن يحفظوا فروجهم، ومنعَ المرأةَ من إبداء زينتِها في الحياة العامة، ومنعها من إبدائها لغير محارمها في الحياة الخاصة.

 

 جعلتْ العقيدةُ الإسلامية من المرأة عرضاً يجبُ أنْ يُصانَ، فأبعدت نظرةَ الذكورةِ والأنوثة عندَ الناس في الحياة العامة، وفي العمل لعمارة هذا الكون، وجعلت النظرةُ الإنسانية هي الأساس في التعامل في الحياة العامة.

 

ومن خلقَ الإنسانَ يعلمُ ماذا خلقَ، ويعلمُ ماذا يلزمه، ويعلم ما يمكنُ أن يواجهه من مشاكل في سيره في إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، فوضع له النظام الصحيح للإشباع، وأعطاه المفاهيم الصحيحة والنظرة الصحيحة، ولذلك ترتّب على هذا الميلِ علاقةً تحتاجُ إلى تنظيم، فنظمها التنظيم الصحيح، ونظّمَ ما ينشأ عنها من حمل وولادة ورضاع وحضانة وتربية ونسبٍ، وأوجبَ للمرأة حقَّ النفقة على زوجها، أو على وليّها، وأوجبَ على المرأة طاعةَ زوجِها في غير معصيةِ الله، وأوجبَ لها السكنَ المناسبَ لها بالمعروف، كل هذا ليجنّبَ الناسَ الوقوع في المشاكلِ في ما بينهم، ويجنبَ الناسَ الوقوع في القلق والشقاء.

 

ونظّمَ علاقات الرجلِ بالمرأة في غير الميل الجنسي، فأوجبَ صلةَ الرحم، وجعلَها قربةً إلى الله تعالى يؤجرُ صاحبها.

 

وأوجبَ صلةَ القربى وجعلها قربةً إلى الله تعالى يثابُ فاعلها.

 

وشرعَ أحكامَ المواريث، وأعطى كلاً من الرجل والمرأة ما يستحقه من ميراث مورّثِه.

 

وأوجبَ برَّ الأمّ على أولادها.

 

وجعلَ الجنةّ لمن يكونُ له ثلاث بناتٍ فيحسنُ تربيتهن وتعليمهن، ولمن يكونُ له بنتان فيحسنُ تربيتهما وتعليمها، ولمن يكون له بنتٌ فيحسنُ تربيتها وتعليمها، وجعلها لأبيها ستراً من النار، وحرّمَ وأدَ البنات، وشدّد الوعيد على فاعله في الدنيا والآخرة، وحرّمَ قتل الأولادِ بسبب الفقرِ أو مخافةَ الفقر، وأخبرَ أنه تعالى يرزقُ الأبناء والبناتِ كما يرزقُ الآباءَ والأمهات.

 

وفي هذه الأيام، وقعت البشرية في الشقاء لما صوّرت الحياةَ على أنها متعةٌ وشهوات يسعى وراءها صاحبها، فهذه الحياةُ الرأسماليةُ جعلت المرأةَ سلعةً تُباعُ وتشترى، وقاسوا قيمتها بمقاسات جسمها البالية، وأشغلوها بالمحافظة على جسمِها وجمالها، وأزيائها الجديدة، جعلوا مظهَرَها عندَها غايةً لها، وجعلوها فريسةٍ لكل مفترسٍ متوحِّشٍ من الرجالِ، وخدعوها وغرروا بها، أخرجوها من بيتها، ومن سترها، ومن لباسها، ومن حيائها، وفرضوا عليها أن تجدّ وتكدّ وتتعبَ لتحصل على رزقها، فلم يبق عندها وقت للقيام بوظيفتها، كل ذلك لما صنعوا إلهاً جديداً أسموه الحريات، وأوقعوها في التناقض بين دوافع الذات والبقاء ودوافع النوع، فلم تدرِ أتسعى لحفظ نوعها البشري، فتؤّدي وظيفتها؟ أم تسعى لحفظ ذاتها وبقائها وتحفظ مظهرَها أمام الآخرين، ليكيلوا لها عبارات الثناء والإعجاب بمظهرها وجمالها؟ فتضيع بين الدافعين في شقاء مستمر.

 

وما أصابَ المرأةَ من تناقضٍ وشقاءٍ أصابَ الرجلَ، فغفل عن مهمةِ حفظ النوع البشري في علاقته مع المرأة، هذه المهمة التي تحقق السكن والراحة والطمأنينة، وانصرف عنها إلى غايةٍ أخرى، جعل الإشباعَ بحدّ ذاته غايةً وهدفاً، فاستمرّ يجري وراءَه ولا يستطيعُ تحقيقه، وصار كمن يجري وراء سرابٍ لا نهاية له، ظنّ أنّ الإشباعَ يصلحُ أن يكونَ غايةً، فاستمرَّ يشبعُ حتى أصابه ما أصاب المنبتَّ الذي لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، بل انتهى إلى الشذوذ، فلم يعد الإشباع الطبيعي يرضيه، ثم انتهى به الشذوذ إلى الموت، ثم إلى جهنم.

 

لا بد للبشر من العودة إلى الحل الصحيح للعقدة الكبرى، إلى العقيدة الإسلامية، التي نزلها الله سبحانه وتعالى خالق الإنسان، العالم بما خلق، والعالم بما يصلح ما خلق، ولا يصلح هذا المخلوق إلا نظام الخالق سبحانه وتعالى.

رابط هذا التعليق
شارك

Join the conversation

You can post now and register later. If you have an account, sign in now to post with your account.

زوار
اضف رد علي هذا الموضوع....

×   Pasted as rich text.   Paste as plain text instead

  Only 75 emoji are allowed.

×   Your link has been automatically embedded.   Display as a link instead

×   Your previous content has been restored.   Clear editor

×   You cannot paste images directly. Upload or insert images from URL.

جاري التحميل
×
×
  • اضف...